تحليل نتائج بعض الندوات
تضم الندوات والدراسات الحديثة المتعلقة بالوقف بحوثاً قيمة، ونظرات صائبة، وأفكاراً جديدة، لكن المقام لايسمح هنا بالتحليل المفصل لتلك البحوث والأفكار. ومراعاة لذلك سأقتصر على تحليل نتائج ثلاث من الندوات التي اطلعت عليها. وهي ندوة جدة، وندوة الكويت، وندوة استنبول، وإنما اخترت هذه الندوات الثلاث لأمرين: الأول لأنها كانت في متناولي، والثاني لأنها أوثق اتصالا بالهدف المرسوم لهذه الدراسة.
1.5: ندوة >إدارة وتثمير ممتلكات الوقف< بجدة.
يمكن أن نصنف أهم القضايا التي أثيرت في هذه الندوة إلى ثلاثة أنواع:
الأول: يتعلق بتحديد طبيعة الوقف ومشروعيته.
الثاني: يختص بالحكم الشرعي لعدد من مسائل الوقف وقضاياه.
الثالث: يتعلق بكيفية تنمية ممتلكات الوقف وتثميرها في الإطار الشرعي.
أما النوع الأول فقد مضى الحديث عنه بالتفصيل في الفصل الأول من هذه الدراسة.
وأما النوع الثاني فهو خارج عن غرض هذا الكتاب.
وأما النوع الثالث : وهو الذي يتعلق بكيفية تنمية أموال الوقف واستثمارها وتطوير أساليبه فسيأتي مفصلا في الفصل الرابع من هذه الدراسة.
وفي هذه الندوة قدمت بحوث قيمة عن الاستثمار الذاتي أي الاستثمار الداخلي الذي ينجز بأموال الوقف ذاتهاوبحوث أخرى عن أساليب الاستثمار الخارجي،أي الذي ينجز بتمويل من جهة خارجة عن إدارة الأوقاف، وناقشت الندوة عددًا من الأساليب الاستثمارية التي يمكن أن تنجزها مؤسسة الوقف عن طريق التمويل الخارجي، وفي ختام مناقشتها أوصت باعتماد صيغتين فقط:
الأولى: هي ما سمي في الفقه الإسلامي بعقد >الاستصناع<، ويسمى في الاصطلاح القانوني بعقد المقاولة.
والثانية: هي المشاركة المتناقصة التي تنتهي إلى ملك الأوقاف.
واقترح بعض المشاركين صيغة جديدة سميت بسندات المقارضة، وبعد المناقشة أوصت الندوة بتجنب هذه الصيغة بسبب دخول بعض العناصر المخالفة للشريعة في صورتها التطبيقية.
وأنهت الندوة أعمالها باصدار التوصيات الآتية:
أولا: أن أفضل السبل لاستثمار الممتلكات الوقفية بالتعاون مع جهة ممولة حتى الآن هي:
ـ عقد الاستصناع.
ـ عقد المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك.
ـ قيام البنوك الإسلامية بعملية استثمار الممتلكات الوقفية في الدول التي هي في حاجة إلى استثمار أوقافها.
ـ دخول وزارات الأوقاف في البلدان الإسلامية التي تملك فائضاً في إيراداتها في استثمار أموالها في بلدان إسلامية أخرى في حاجة إلى أموال لاستثمار أوقافها.
ـ قيام وزارات الأوقاف التي هي في حاجة إلى استثمار ممتلكاتها الوقفية بتوفير الضمانات الكافية لرؤوس الأموال المستثمرة وحمايتها وإعفائها من كافة الضرائب.
ثانياً: يقوم البنك الإسلامي للتنمية بالتعاون مع الجهات المختصة بالدراسات الميدانية في التنظيم الإداري بغية الوصول إلى تنمية فعالة للمتلكات الوقفية في مختلف الدول الأعضاء وتحديد المشاريع الاستثمارية للأوقاف في هذه الدول بالإضافة إلى تشجيع الباحثين على إجراء دراسات تتناول الوقف بصورة شاملة للنهوض به وفق المعطيات الشرعية والعلمية.
ثالثاً: ضرورة تأسيس منظمة إسلامية عالمية للوقف يكون البنك الإسلامي للتنمية عضوًا فيها، تقوم بالآتي:
ــ التنسيق وتبادل المعلومات وتحضير اللقاءات.
ــ البحث عن أنجع السبل لتثمير الممتلكات الوقفية.
ــ وضع السياسة العامة للهيئات الوقفية في البلدان المشاركة.
ـ تأسيس صندوق للمساعدات الاجتماعية يمول من فائض أموال الوقف العام غير المشروط.
رابعاً: يقوم البنك الإسلامي للتنمية بتنظيم حلقات دراسية مماثلة لهذه الندوة تتناول مختلف الجوانب كالتنظيم والتخطيط في الإدارات الوقفية.
خامساً: حث الهيئات الوقفية في الدول المشاركة على تخصيص وظائف تهتم بالنشاط الاجتماعي وتعمل على تنفيذ شروط الواقفين في أوجه الخيرات.
وبإمعان النظر في هذه التوصيات يظهر أن الندوة سعت إلى الإسهام الجدي في بيان أهمية الوقف وأبعاده الاقتصادية والاجتماعية، وفي تجديد طرق استثمار أمواله وتنميتها، باختيار أفضل الأساليب، وتوسيع دائرتها، والانفتاح على مصادر جديدة للتمويل، كالبنوك الإسلامية التي تتقيد في معاملاتها بالضوابط الشرعية، كما سعت إلى الخروج بالأوقاف الإسلامية من الحدود الضيقة التي فرضت عليها.
وفي هذا السياق دعت البنوك الإسلامية إلى استثمار الممتلكات الوقفية في الدول التي هي في حاجة إلى استثمار. كما دعت وزارات الأوقاف الإسلامية إلى فتح أبواب التعاون المثمر بينها. بأن تقوم الوزارات التي تملك فائضا في إيراداتها بالاستثمار في البلدان الإسلامية التي تحتاج إلى استثمار.
ومن أهم الأفكار الرائدة التي أوصت بها الندوة تأسيس منظمة إسلامية عالمية للوقف، ورسم إطار عام لأنشطتها وأهدافها، وهذه فكرة صائبة ظهرت الحاجة إليها بإلحاح في هذا العصر، بعد أن تزايدت المآسي والمظالم التي تتعرض لها الأقليات الإسلامية في بعض أنحاء العالم. ووجود مثل هذه المنظمة الإسلامية من شأنه أن يخفف من مأساة هذه الأقليات.
ومن أهم أفكار هذه الندوة أيضاً دعوة مؤسسات الوقف إلى زيادة العناية بالنشاط الاجتماعي، وتستمد هذه الفكرة أهميتها من الظروف السياسية والاجتماعية الراهنة، بعد أن شرع الكثير من الحكومات في التخلص من أعباء الخدمات الاجتماعية، ففي ظل هذه السياسة بدأت الأنظار من جديد، تتوجه إلى الأوقاف لإحياء وظائفها الاجتماعية.
2.5 ندوة الكويت >نحو دور تنموي للوقف<.
اشتملت أعمال الندوة على محورين كبيرين:
الأول: يضم مجموعة من الدراسات التي عالجت أبعاد الوقف ودوره في التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
الثاني: عبارة عن عروض تناولت تجارب الدول المشاركة في إدارة الأوقاف وتنظيم أجهزتها، وخلصت الندوة إلى عدد من التوصيات أهمها:
ـ التخطيط لإشاعة الوعي بأهمية الوقف في التنمية الشاملة، وذلك بإبراز دوره التاريخي في صناعة الحضارة الإسلامية، ومميزات دوره التنموي في واقعنا المعاصر، وتجديد نظم إدارته وأجهزة الرقابة عليه.
ـ إبراز الطابع أو الخصوصية الإسلامية للتنمية، بواسطة مؤسسات الوقف الإسلامية من حيث أنها تنمية للجانب المادي في الواقع، وأيضاً تزكية للنفس وتطهير للمال.
ـ الاهتمام بدراسة العوامل السلبية التي طرأت على الوقف ومؤسساته في القرون الأخيرة.
ـ الحاجة إلى ضبط تشريع إسلامي لأحكام الوقف كلها ضبطاً يأخذ بمختلف المذاهب الإسلامية، ويراعي حاضرنا المتطور، ويرجح من الأحكام القديمة والاجتهادات ما يحقق المصلحة الإسلامية المعتبرة، على أن يشترك في ذلك علماء الشريعة والاقتصاد.
ـ تنمية دور الأمة في مؤسسات الوقف إدارة ورقابة وتخطيطاً، لتعود هذه المؤسسات إلى الصورة التي كانت لها في تاريخنا الحضاري.
ـ توسيع مفهوم الوقف كي لايحصر في العقارات فقط كما كان في القديم، وذلك ليشمل المشاريع الزراعية والصناعية والتجارية التي تحقق عائداً أفضل يخدم أهداف الوقف، ويؤمن فرص عمل لأفراد الأمة.
ـ السعي لإنشاء مؤسسات وقفية متخصصة بواسطة تبرعات صغيرة، لإنشاء وقفيات للإنفاق على علاج المرضى، وأخرى للتعليم الديني، وثالثة للدعاة ورابعة للبحث العلمي والثقافي، وأخرى للمضاربة الشرعية التي تمكن الشباب الأجراء من أصحاب الخبرة كي يصبحوا أرباب عمل، وأخرى لتسديد الديون التي ترتبت على المنتجين والمصدرين تشجيعا لهم.
ـ دعوة مراكز أبحاث الوقف والدراسات الاقتصادية إلى الاستفادة من تجارب مؤسسات الوقف الإسلامية والخيرية غير الإسلامية، والاستفادة من خبرات المعنيين بشؤون الوقف مفكرين واقتصاديين ورجال أعمال.
ـ دعوة المجامع الفقهية الإسلامية ومجامع البحوث الإسلامية والاقتصادية وأقسام الدراسات العليا إلى إيلاء قضية الوقف ودوره التنموي ما تستحقه من اهتمام.
ـ استحداث سبل وصيغ لاستثمار أموال الوقف من أجل تأمين دخل مرتفع، وعدم الجمود عند الصيغ التقليدية القديمة.
هذا مجمل توصيات هذه الندوة وهناك توصيات أخرى وافقت فيها هذه الندوة ندوة جدة السابقة، لا داعي لإعادتها.
وبإمعان النظر في بحوث هذه الندوة ونتائجها يظهر جلياً أن المشاركين على وعي تام بالدور الكبير الذي قام به الوقف في الحضارة الإسلامية سابقاً، ويستطيع أن يقوم به في الواقع المعاصر، ولذلك كانت توصيات الندوة منصبة على الدعوة إلى إيجاد الشروط الضرورية للنهوض بمؤسسة الوقف، وجعلها قادرة على أداء دورها الإيجابي في التنمية الشاملة.
في هذا السياق تندرج الدعوة إلى إشاعة الوعي بأهمية الوقف وبدوره التاريخي في صناعة الحضارة الإسلامية، وإلى وجوب دراسة العيوب والعوامل السلبية التي طرأت على نظام الوقف وعاقته عن أداء رسالته كاملة، وإلى ضبط أحكامه الشرعية وقوانينه والاجتهاد في ترجيح مايناسب العصر، منها ومايخدم مصلحة الوقف والمستفيدين منه وما يلائم حاجات المسلمين.
ومن الأفكار الجديدة الرائدة التي برزت في هذه التوصيات، فكرة إنشاء مؤسسات وقفية متخصصة للإنفاق على المرافق العامة ذات الأولوية كعلاج المرضى والتعليم الديني والبحث العلمي، ومساعدة الشباب العاطل. ولاشك أن تنفيذ هذه الأفكار سيسهم في حل أكبر المعضلات الاجتماعية التي تواجه عدداً من الحكومات والشعوب في العالم الإسلامي، ومنها البطالة والفقر.
ومن تلك الأفكار الجديدة دعوة المجامع الفقهية وأقسام الدراسات العليا إلى إيلاء الوقف ما يستحقه من الاهتمام.
كل هذه الأُفكار تعكس وعياً حقيقياً بأهمية الوقف وبأبعاده الكثيرة، وبالدور الإيجابي الذي يستطيع أن ينهض به في العالم الإسلامي المعاصر، كما تعكس إحساسا ورغبة صادقة في الإسهام في تطوير آفاق عمله، وتجديد أنظمته ومؤسساته.
3.5 :ندوة >الوقف في العالم الإسلامي المعاصر: الآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية<.
صدرت أعمال هذه الندوة في كتاب في إطار منشورات المعهد الفرنسي للدراسات الأناضولية سنة 1994، وشارك فيها باحثون من بلدان إسلامية وغير إسلامية، وتناولت عدداً من المسائل المتعلقة بالوقف، مؤسسة ونظاماً وأوضاعاً وتاريخاً، ولاسيما في العقود الأخيرة.
يتكون الكتاب من محاور أربعة: المحور الأول يدورحول الأوقاف في العهد الأخير للدولة العثمانية وفي تركيا المعاصرة، أما المحور الثاني فيضم أبحاثاً جاءت ضمن عنوان عريض، هو >العالم العربي وإسرائيل<، والمحور الثالث كان عن دول البلقان التي كانت سابقاً في ظل الحكم العثماني، أما المحور الرابع فتناولت أبحاثه جزءا من العالم الإسلامي الذي كان تابعا للاتحاد السوفياتي قبل انهياره. هذا إلى جانب موضوعات أخرى تناولت تأثير الوقف على جوانب من الحياة الاقتصادية والاجتماعية لبعض الفئات الاجتماعية والطوائف كالحركات الصوفية، وسكان الأرياف، أوفرقة الانكشارية في فترة سابقة، كما تناولت بعض الأبحاث الوقف الذي كان خاصاً بالأسطول في الجيش العثماني، والوقف في الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي.
وتبرز هذه الندوة في الحقيقة اهتمام المدرسة الاستشراقية الفرنسية بدراسة الأوقاف باعتبارها من أهم سمات المجتمع الإسلامي حتى القرن العشرين. كما تبرز حرص إسرائيل على المشاركة الفعالة في المؤتمرات الدولية، إذ شارك فيها باحثان إسرائيليان من جامعة القدس، أما المشاركة العربية فكانت قليلة.
إن هذه الندوات المهمة أثارت العديد من التساؤلات حول إمكانية عودة نظام الأوقاف من جديد للقيام بدوره في الحياة الاجتماعية المعاصرة، ولاسيما مع الاتجاه السائد في بعض الدول لترك هامش لتحرك بعض الأفراد في مجال العمل الاجتماعي بتقديم خدمات اجتماعية تعجز الدولة عن الوفاء بها. كما طرحت تساؤلات قديمة حول مشروعية وقف النقود، وحول ظاهرة إنشاء بنوك للأوقاف وحول تنظيم إدارة الأوقاف واختلافه بين بلدان العالم الإسلامي، وأخيرا أبرزت مدى حاجة المدرسة التاريخية العربية إلى الاهتمام بدراسة الأوقاف.
تلك نبذة موجزة عن أعمال أهم الندوات الكبرى التي نظمت في السنوات الأخيرة لبحث موضوع الوقف، ويستفاد من عرض موضوعاتها أن كل ندوة ركزت على جانب خاص. فقد ركزت ندوة جدة على طرق استثمار أموال الوقف وإدارتها، وندوة الكويت ركزت على دور الوقف في التنمية، أما ندوة استانبول فقد ركزت على الوقف في البلاد التي كانت تابعة للحكم العثماني.
إلى جانب هذه المحاور الكبرى تناولت بعض بحوث هذه الندوات الأبعاد الدينية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للوقف، وسنفرد لتحليل هذه الدراسات الفصل الثالث من هذه الدراسة.
حاجة العالم الإسلامي المعاصر إلى مؤسسة وقفية عالمية
إن العالم الإسلامي المعاصر يحتاج اليوم، في ظل النظام العالمي الجديد، إلى تعاون أوسع وتآزر أكبر، وإلى تضافر الجهود المتناثرة لمواجهة التحديات الكبرى التي يواجهها، ولموازنة الضغوط الكثيرة التي يتعرض لها.
إن كثيراً من المجتمعات الإسلامية تعاني من قلة الإمكانات، وتواجه كثيراً من المشكلات التي تعوق طريقها نحو التنمية والتقدم، وإن كثيراً من الأقليات والجاليات الإسلامية في أنحاء العالم تواجه مشكلات كبيرة في الحفاظ على هويتها وتربية أبنائها وحماية أسرها من الغزو الفكري والثقافي، ومن الأخطار التي تهدد وجودها.
كل هذه المشكلات وغيرها تستلزم تضافر جهود الأمة الإسلامية لمعالجتها أو التخفيف منها، وإن مؤسسة الوقف لقادرة على أن تسهم في ذلك إذا نَسَّقت جهودها ونظمتها في شكل مؤسسات إقليمية أو عالمية كبرى تنظم الجهود المتناثرة وتوجهها لمصلحة البلدان الإسلامية أو الجاليات الإسلامية التي تحتاج في مواجهة ظروفها ومشكلاتها إلى مساعدات كبيرة قد لاتنهض بها المؤسسات والجمعيات الخيرية متفرقة.