البعد الصحي والاجتماعي
جل الباحثين والمفكرين المحدثين الذين أسهموا في الندوات والحلقات الدراسية والمناقشات التي دارت حول نظام الوقف ودوره الحضاري والاجتماعي، وطرق النهوض به، وتطويرآفاق عمله، جل هؤلاء تحدثوا بإعجاب عن الفضل الكبير الذي كان للوقف، على مَرِّ تاريخ الحضارة الإسلامية، في مجالات الرعاية الصحية والخدمة الاجتماعية.
لقد أظهرت جهود أولئك الباحثين، بعد الاطلاع على الوثائق الوقفية وكتب التاريخ والرحلات، أن كثيراً من مراكز الرعاية الصحية والمستشفيات التي انتشرت في سائر المدن والأمصار الإسلامية كانت تعتمد اعتمادًا كبيراً على موارد الأوقاف.
كما تحدثت عن وفرة الأوقاف التي أنشئت خصيصاً لإنشاء المستشفيات والإنفاق عليها وإمدادها بالأدوية، ووسائل العلاج اللازمة.
وتحدث بعض الباحثين عن أنواع المراكز الصحية التي رعتها الأوقاف، فذكر منها ستة أنواع:
المستشفيات الكبيرة.
المراكز الصحية الصغيرة.
المستوصفات المتنقلة.
مستشفيات السجون.
الصيدليات ومخازن الأدوية.
المدارس الطبية التعليمية.
أ) المستشفيات الكبيرة
كان أول مستشفى كبير في تاريخ الحضارة الإسلامية هو "البيمارستان" الذي أمر ببنائه هارون الرشيد ببغداد، ومن المستشفيات التي أقيمت أيضاً ببغداد مستشفى السيدة أم الخليفة المقتدر بالله، ويسمى مستشفى "السيدة" افتتح في اليوم الأول من محرم 203هـ، كما أقام المقتدر مستشفى آخر ببغداد، وسمي المستشفى "المقتدري"، وتعددت المستشفيات الكبيرة وانتشرت حتى كان ببغداد وحدها في مطلع القرن الرابع خمسة مستشفيات.
وبلغ من عناية المسلمين بالرعاية الصحية وتطوير خدماتها، أن خصصت أوقاف لبناء أحياء طبية متكاملة. حدث ابن جبير في رحلته أنه وجد ببغداد حياً كاملاًً من أحيائها يشبه المدينة الصغيرة، كان يسمى بسوق المارستان، يتوسطه قصر فخم جميل وتحيط به الغياض والرياض والمقاصير والبيوت المتعددة، وكلها أوقاف وقفت على المرضى، وكان يؤمه الأطباء والصيادلة وطلبة الطب، إذ كانت النفقات جارية عليهم من الأموال الوقفية المنتشرة ببغداد.
وتحدثت كتب التاريخ عن المستشفيات التي أنشئت في مصر بفضل أموال الوقف، فذكروا منها مستشفى أنشأه الفتح بن خافان، وزير المتوكل على الله العباسي. ومستشفى آخر أسسه أمير مصر أحمد بن طولون، سمي باسمه، وحبس له من الأوقاف مايلزم للإنفاق عليه، وبنى فيه الحمامات للرجال والنساء. وكان من أشهر المستشفيات في العصر الأيوبي والمملوكي تلك التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي. وتحدث المؤرخون والرحالة عن المستشفى الذي أنشأه الملك قلاوون بمصر، وجعله وقفاً لعلاج مرضى المسلمين، قال عنه ابن بطوطة: >إنه يعجز الوصف عن محاسنه، وقد أعد فيه من الأدوية والمرافق الخدمية ما لايحصى<.
وكثرت المستشفيات والمنشآت الصحية بمدن الأندلس، ذكر بعض الباحثين أن مدينة قرطبة كان بها خمسون مستشفى، وقفها وأنفق عليها الخلفاء والأمراء والموسرون.
ونهضت الأوقاف بالرعاية الصحية في المغرب الأقصى كذلك، وأقيمت مستشفيات كبيرة في أهم المدن وتحدث عنها المؤرخون بإسهاب، ومن أهمها مستشفى سيدي فرج بفاس، أسسه السلطان يوسف بن يعقوب المريني، ووقف عليه عقارات كثيرة برسم النفقة عليه والعناية بالمرضى. ومن طريف ما ذكره المؤرخون أن جزءا من أوقافه كان مخصصا لعلاج طير اللقلاق، وجزءا للموسيقيين الذين يزورونه مرة كل أسبوع للترفيه عن المرضى.
ويذكر المؤرخون مستشفى آخر بمدينة مراكش أنشأه المنصور الموحدي.
ب) المراكز الصحية
وهي مراكز طبية تعنى بتقديم الخدمات الصحية لأهل حي واحد، وكانت تقام بجوار المساجد، أو قرب الجامع الكبير.
ج) المستوصفات المتنقلة، وهي نوعان:
الأول : عبارة عن فرق طبية متنقلة ترسل إلى الأماكن النائية في القرى والأرياف لتفقد الأحوال الصحية للسكان وعلاج المرضى، ويكثر هذا النوع في أوقات انتشار الأوبئة.
الثاني : عبارة عن مستشفيات عسكرية تنتقل مع الجيش الإسلامي وقت الحروب.
د) مستشفيات السجون
وهي مستوصفات ملحقة بإدارة السجون لتقديم الخدمات الصحية للمساجين والعناية بهم.
هـ) المستشفيات المتخصصة:
وإلى جانب الأنواع المتقدمة أنشأ المسلمون مستشفيات خاصة ببعض الأمراض، منها:
مستشفى الجذام، الذي كان يُجْمَعُ فيه المجذومون ويعزلون عن المجتمع، كي لاينتشر داؤهم إلى الغير.
و) مستشفيات المجانين وقد خُصِّصََتْ لعلاج هذا الصنف من المرضى.
ويجب أن نشير إلى أن الخدمات الصحية التي تقدمها هذه المراكز الطبية، من علاج وعمليات وأدوية وطعام، كانت مجاناً بفضل الأوقاف التي كان المسلمون يرصدونها لهذه الأغراض الإنسانية، إذ كانت الرعاية الصحية في سائر البلاد الإسلامية إلى وقت قريب من أعمال البر والخير، ولم تكن هناك وزارات للصحة العمومية كما في العصر الحاضر.
وكان للأوقاف أثر حميد في النهوض بعلوم الطب، لأن دور المستشفيات التي ينفق عليها من الأوقاف لم يقتصر على تقديم العلاج، وإنما تعدى ذلك ذلك إلى تدريس علم الطب، فكانت تخصص قاعات داخل المستشفيات الكبيرة للدروس والمحاضرات.
الرعاية الاجتماعية
يعتبر الوقف الإسلامي الخيري دعامة للتكافل الاجتماعي، ووسيلة من وسائل علاج مشكلة الفقر في المجتمع، فقد شُرِعََتْ الأوقاف ليكون ريعها صدقةً جارية لاتنقطع تدر الثواب المتصل على الواقفين، وعملاً صالحاً يدر الخير الوافر على المحتاجين والمستحقين.
إن الأوقاف قامت بدور كبير في مجال التضامن الاجتماعي في المجتمع الإسلامي، لأنها، وإن تعددت جهاتها وأبعادها، تؤول إلى جهة بِرِّ لاينقطع، وهي في الغالب الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل والغرباء والمنقطعون والضعفاء وذوو العاهات، وأصحاب الحاجات، والأطفال المحرومون... إلخ. لقد وجد هؤلاء جميعاً الرعاية التامة في ظل المجتمع الإسلامي بفضل المؤسسات الخيرية وأعمال البِرِّ الدائمة التي تدرها الأوقاف.
هذه الرعاية تعبير عملي عن روح التضامن الاجتماعي الحقيقي الذي غرسه الإسلام في النفوس، وجعله من أهم مرتكزات نظامه الاجتماعي. ويعد التضامن المرتكز على الوقف أرقى من نظام الضمان الاجتماعي المعمول به في العصر الحاضر بكثير، وذلك لأن الوقف عمل تطوعي، وصدقة مالية يؤيدها الأغنياء والموسرون للفقراء والمساكين والضعفاء، طلباً للثواب عند الله، وهو خدمة عملية للمحتاجين من الناس، وكذلك هو مورد دائم تستفيد منه أجيال كثيرة. وهو مستقل عن الأجهزة الإدارية المركزية المعقدة.
كان الوقف هو الحجر الأساس الذي قامت عليه كل المؤسسات الخيرية في تاريخ حضارتنا الإسلامية، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أول من ضرب المثل الأعلى لأمته في ذلك، فوقف سبع بساتين كان أوصى بها يهودي من أهل المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يتصرف فيها كيف يشاء، فوقفها الرسول، صلى الله عليه وسلم، بعد موت اليهودي، على الفقراء والمساكين والغزاة وذوي الحاجات.
إن الرعاية الاجتماعية والبِرَّ بالفقراء والمساكين والمحتاجين مقصد من مقاصد الإسلام، أولاه القرآن الكريم عناية كبيرة، فَحَضَّ في كثير من الآيات على الإحسان وإطعام المساكين، والإنفاق على الفقراء.
وبرز هذا المقصد في السنة النبوية كذلك، في الأحاديث التي تعد أصولا لتشريع الوقف، كما في قوله، صلى الله عليه وسلم: >إن مما يجني المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً نشره أو ولدًا صالحاً تركه، أو مصحفا وَرَّثَهُ، أو مسجدًا بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه بعد موته<.
وكما في حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: >يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به، قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف.
انطلاقاً من التوجيهات القرآنية التي تحض على رعاية حقوق الضعفاء والمساكين، ومن هذه الأحاديث التي برز فيها القصد إلى الرعاية الاجتماعية واضحاً، تتابع المسلمون، على مر الأجيال يحبسون الأراضي والعقارات والبساتين والغَلاَّت والدور لأعمال البر ونفع المحتاجين، مما ملأ المجتمع الإسلامي بالمؤسسات الخيرية.
ووجوه البر وأبواب الإحسان والرعاية التي نشأت في المجتمع الإسلامي بفضل الوقف كثيرة، فهناك أوقاف للّقطاء واليتامى لإيوائهم ورعايتهم وختانهم، وكانت هناك أوقاف مخصصة لرعاية المقعدين والعميان والشيوخ والعجزة، وأوقاف لإمدادهم بمن يقودهم ويخدمهم، وأوقاف لتزويج الشباب والفتيات ممن تضيق أيديهم وأيدي أوليائهم عن نفقاتهم، وفي بعض المدن دور خاصة حبست على الفقراء لإقامة أعراسهم.
وكانت هناك أوقاف لإمداد الأمهات المرضعات بالحليب والسكر، ويذكر المؤرخون بإعجاب شديد أن من محاسن صلاح الدين الأيوبي أنه جعل في أحد أبواب القلعة بدمشق ميزاباً يسيل منه الحليب، وميزابا يسيل منه الماء المحلى بالسكر، تأتي إليهما الأمهات في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر.
وكانت هناك أوقاف لإنشاء دور للضيافة والاستراحة (الخانات)، وأوقاف لقضاء الديون عن المعسرين، وأوقاف للقرض الحسن، وأوقاف لتوفير البذور الزراعية، ولشق الأنهار وحفر الآبار.
ومن أهم المنشآت الاجتماعية التي نشأت في المجتمعات الإسلامية، بفضل الاهتمام بالوقف، أسبلة المياه الصالحة للشرب(السقايات) وكان من تقاليد الوقف أن تلحق الأسبلة بالمساجد، وغالباً ما تكون وسط المدينة أو على طرق القوافل، لتكون في متناول الجميع. وشاع الوقف لهذا الوجه من البِرِّ في سائر أنحاء العالم الإسلامي، لعظيم فضلها وثوابها.
وهناك أوقاف مشهورة في التاريخ لتزويد مكة المكرمة بالماء الطاهر الطيب، أشهرها وقف السيدة زبيدة زوج هارون الرشيد، ومازال يعرف بعين زبيدة.
إن كل هذه الأوقاف والمؤسسات الخيرية الاجتماعية الناشئة عنها، تدل على الدور الحيوي الكبير الذي قام به الوقف في مجالات الرعاية الاجتماعية وتوفير الأمن الغذائي وعلاج مشاكل الفقر، وتوفير الماء الصالح للشرب، وإطعام الفقراء والمساكين، وأداء الدين عن الغارمين وإنشاء صناديق القرض الحسن...إلى ما لايعد ولايحصى من وجوه البِرِّ والعمل الاجتماعي النافع الذي ينسج روابط المحبة وعلاقات التضامن والتكافل بين أفراد المجتمع وطبقاته. فأين هذه الموارد التي كانت غزيرة ومتدفقة؟ وكيف تقلصت من مجتمعات المسلمين؟ أين الأيدي الرحيمة التي تمسح دموع اليتامى، وتصون الأرامل، وتعين المحتاجين، وتجعل المسلم أينما حل يشعر بالعزة والكرامة، وتجعل الأمة الإسلامية أمة واحدة متراصة، ينعم فيها الناس جميعاً بالأمن والخير والكرامة والسلام؟