وأما السنة النبوية فقد وردت أحاديث كثيرة تدل على مشروعية الوقف منها:
أ) مارواه أبو هريرة، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال:>إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له<. ويفصل معنى الصدقة الجارية ماورد في سنن ابن ماجة، يقول النبي صلى الله عليه و سلم ، "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً نشره أوولدًا صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته".
ب) وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه و سلم ، المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: "من يشتري بئر رومة، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة"، قال عثمان:"فاشتريتها من صلب مالي<، ومعنى الحديث أن عثمان اشترى البئر وجعلها وقفاً على المسلمين.
ج) روى أبو هريرة، رضي الله عنه أن خالد بن الوليد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله.
د) مارواه البيهقي من أن عدداً من الصحابة تصدقوا بدورهم ومساكنهم، وجعلوها وقفاً في سبيل الله أو على ذريتهم.
وثبت عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أنهم وقفوامن أموالهم، واشتهر ذلك عنهم، فلم ينكره أحد، فكان إجماعاًً على مشروعية الوقف.
ويكون الوقف باطلا غير مشروع إذا قصد به الواقف مضارة ورثته، كمن يقف على ذكور أولاده دون إناثهم، لأن ذلك مما لم يأذن به الله سبحانه، بل إنه تعالى نهى عن الضرر و
حكمة مشروعيته
أما الحكمة من مشروعيته فهي، بعبارة مجملة، إيجاد موارد مالية ثابتة ودائمة لتلبية حاجات المجتمع الدينية والتربوية والغذائية والاقتصادية والصحية والأمنية، ولتقوية شبكة العلاقات الاجتماعية، وترسيخ قيم التضامن والتكافل، والإحساس بالأخوة والمحبة بين طبقات المجتمع وأبنائه، كل ذلك لنيل مرضاة الله.
وإذا أمعنا النظر في صور الوقف التي تمت في العهدين النبوي والراشدي أمكن أن نتبين جلياً مقاصد الوقف ومراميه الإنسانية والاجتماعية على النحو الآتي:
أ) تحقيق الأمن الغذائي للمجتمع المسلم. ويتضح ذلك في تصدق أبي طلحة بنخيله وجعل ثمارها للفقراء من أهل قرابته، وفي البئر التي وقفها عثمان رضي الله عنه على عامة المسلمين.
ب) إعداد القوة والوسائل الضرورية لجعل الأمة قادرة على حماية نفسها والدفاع عن دينها وعقيدتها. ويتضح هذا من وقف خالد بن الوليد سلاحه في سبيل الله.
ج) نشر الدعوة إلى الله وإقامة المساجد لتيسير إقامة شعائر الدين وتعليم أبناء المسلمين. ويتضح هذا من تأسيس مسجد قباء والمسجد النبوي وجعلهما مركزين للعبادة والتعليم وتنظيم العمل الاجتماعي.
د) توفير السكن لأفراد المجتمع. ويتضح ذلك من أوقاف عدد من الصحابة التي تمثلت في الدور والمساكن التي حبست على الضيف وابن السبيل أو على الذرية.
هـ) نشر روح التعاون والتكافل والتآخي التي تجعل المجتمع كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
و) إيجاد مصادر قارة لتمويل حاجات المجتمع، و إمداد المصالح العامة والمؤسسات الاجتماعية بما يلزمها من الوسائل للاستمرار في أداء رسالتها. وذلك لأن الموارد التي قد تأتي من الزكاة أو الهبات ليست قارة، أما الوقف فإن أصوله وأعيانه تبقى أبدا،إلا في حالات خاصة، ولذلك فمنافعه لاتنقطع.
الضرار، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ، لاضر ولاضرار<.
فقه الوقف
جرت عادة الفقهاء أن يتحدثوا بالتفصيل عن أركان الوقف وشروطه وأنواعه، ونشرت في العصر الحاضر بحوث فقهية وافية عرضت هذه المسائل بتوسع، وفصلت آراء الفقهاء فيها بما لايترك حاجة إلى إعادة القول فيها، ولكن الهدف المرسوم لدراستنا هذه لايسمح بالدخول في تفصيلاتها، إذ إننا توخينا الإيجاز.
ولذلك سأقتصر هنا على التذكير بأن الناظر في اجتهادات الفقهاء والباحثين في هذه المسائل، يخلص إلى أن فقه الوقف مبني في مجمله على ثلاثة أسس كبرى، وأن هذه الأسس أوجدت نوعاً من الحماية الشرعية لأموال الوقف ومؤسساته من أطماع الطامعين، وهي:
أ) احترام شرط الواقف وإرادته:
وعن هذا الاحترام أو الالتزام نشأت القاعدة الفقهية التي تقول: >شَرْطُ الَوَاقِفِ كَنَصِّ الشَّاِرعِ< يعني أنه لايجوز تغييره أو انتهاكه. وبإقرار هذه القاعدة توفرت للأوقاف ومؤسساتها، على مر العصور، حماية قوية أسهمت في ضمان بقائها واستمرار عطائها.
ب) اختصاص القضاء بالولاية على الأوقاف:
قرر الفقهاءأن الولاية العامة على الأوقاف من اختصاص القضاء وحده، لأنه أكثر الجهات استقلالاً وقدرة على منع الظلم وانتهاك المصالح الشرعية.
وظلت الأوقاف تحت هذه الولاية المستقلة إلى بدايات العصر الحديث، فبدأ إخراجها تدريجياً من ولاية القضاء في سياق التحولات التي حدثت في مجالي التشريع والقضاء، وفي إطار تنظيم مؤسسات وإدارات الدولة الحديثة. وأدت تلك التحولات إلى تراجع فقه الوقف وانحسار دوره في التنمية الاجتماعية، وإلى إدماجه في الجهاز الإداري الرسمي.
ج) معاملة الوقف على أنه شخص اعتباري:
يستفاد من أحكام الفقه وتفريعاته في جميع المذاهب الفقهية ـ مع وجود بعض الاختلاف ـ أن الوقف يعتبر محلاً لتحمل الالتزامات متى انعقد بإرادة صحيحة واستوفى أركانه وشروطه، فتصير له أهلية وذمة مستقلة. ولذلك قرر الفقهاء ثبوت حق التقاضي للوقف نفسه، فَيُحْكَمُ له ويُحْكَمُ عليه، وقرروا وجوب الزكاة في غلته، وصحة الاستدانة على ذمته من أجل إصلاح أعيانه، ومعنى هذا أن الفقهاء جعلوا للوقف شخصية اعتبارية مستقلة بالمعنى القانوني المتداول.
تلك هي الأسس العريضة للوقف، ومن فوائدها أنها توفر الحماية لأموال الوقف، وتسهل عمليات استثمارها وتنميتها وتكثير عائداتها ومنافعها.
وقد بذل العلماء منذ القدم، جهوداً كبيرة في ضبط أحكام الأوقاف، واجتهدوا في جعلها مناسبة لأوضاعهم. وفي العصر الحديث بدأت حركة نشطة وجهود حثيثة لإصلاح نظام الوقف وإبراز أبعاده وتحسين طرق استثمار أمواله، وفي الفصول اللاحقة سنحاول عرض هذه الجهود وتحليل نتائجها، بعون الله وتوفيقه.